الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وما يلبث هذا التصور المرير الذي لا يطيقه سعد بن عباده في خياله.ما يلبث أن يتحقق.. فهذا رجل يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، ولكنه يجد نفسه محجوزًا بحاجز القرآن؛ فيغلب مشاعره، ويغلب وراثاته، ويغلب منطق البيئة العربية العنيف العميق؛ ويكبح غليان دمه، وفوران شعوره، واندفاع أعصابه.. ويربط على هذا كله في انتظار حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جهد شاق مرهق؛ ولكن التربية الإسلامية أعدت النفوس لاحتماله كي لا يكون حكم إلا لله، في ذات الأنفس وفي شؤون الحياة.كيف أمكن أن يحدث هذا؟ لقد حدث لأنهم كانوا يحسون أن الله معهم، وأنهم في كنف الله، وأن الله يرعاهم، ولا يكلفهم عنتًا ولا رهقًا، ولا يتركهم عندما يتجاوز الأمر طاقتهم، ولا يظلمهم أبدًا. كانوا يعيشون دائمًا في ظل الله، يتنفسون من روح الله، ويتطلعون إليه دائمًا كما يتطلع الأطفال إلى العائل الكافل الرحيم.. فها هو ذا هلال بن أمية يرى بعينيه ويسمع بأذنيه، وهو وحده؛ فيشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناصًا من تنفيذ حد الله، وهو يقول له «البينة أو حد في ظهرك» ولكن هلال بن أمية لا يتصور أن الله تاركه للحد، وهو صادق في دعواه. فإذا الله ينزل ذلك الاستثناء في حالة الأزواج؛ فيبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالًا به؛ فإذا هو يقول قولة الواثق المطمئن: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل.. فهو الاطمئان إلى رحمة الله ورعايته وعدله. والاطمئنان أكثر إلى أنه معهم، وأنهم ليسوا متروكين لأنفسهم؛ إنما هم في حضرته، وفي كفالته.. وهذا هو الإيمان الذي راضهم على الطاعة والتسليم والرضى بحكم الله.وبعد الانتهاء من بيان حكم القذف يورد نموذجًا من القذف، يكشف عن شناعة الجرم وبشاعته؛ وهو يتناول بيت النبوة الطاهر الكريم، وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم إنسان على الله، وعرض صديقه الصديق أبي بكر رضي الله عنه أكرم إنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض رجل من الصحابة صفوان بن المعطل رضي الله عنه يشهد رسول الله أنه لم يعرف عليه إلا خيرًا.. وهو يشغل المسلمين في المدينة شهرًا من الزمان.ذلك هو حديث الإفك الذي تطاول إلى ذلك المرتقى السامي الرفيع:{إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءُون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم}.هذا الحادث. حادث الإفك. قد كلف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلامًا لا تطاق؛ وكلف الأمة المسلمة كلها تجربة من أشق التجارب في تاريخها الطويل؛ وعلق قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلب زوجه عائشة التي يحبها، وقلب أبي بكر الصديق وزوجه، وقلب صفوان بن المعطل.. شهرًا كاملًا. علقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يطاق.فلندع عائشة رضي الله عنها تروي قصة هذا الألم، وتكشف عن سر هذه الآيات:عن الزهري عن عروة وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه؛ وإنه أقرع بيننا في غزاة فخرج سهمي، فخرجت معه بعد ما أنزل الحجاب، وأنا أحمل في هودج، وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل؛ فقمت حين آذنوا بالرحيل، حتى جاوزت الجيش.فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه؛ وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم؛ وإنما نأكل العلقة من الطعام؛ فلم يستنكر القوم حين رفعوه خفة الهودج، فحملوه؛ وكنت جارية حديثة السن؛ فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي، بعدما استمر الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه أحد منهم، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي؛ فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت. وكان صفوان بن المعطل السلمي. ثم الذكواني. قد عرس وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي؛ فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني. وكان يراني قبل الحجاب. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي والله ما يكلمني بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه؛ وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعد ما نزلوا معرسين. قالت: فهلك في شأني من هلك. وكان الذي تولى كبر الإثم عبد الله بن أبي سلول؛ فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرًا؛ والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر. وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف. فذلك الذي يريبني منه، ولا أشعر بالشر حتى نقهت، فخرجت أنا وأم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط. فأقبلت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب حين فرغنا من شأننا نمشي. فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئسما قلت. أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: يا هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ فقلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل رسول صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: ائذن لي أن آتي أبوي. وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي، فأتيت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به. فقالت يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.فقلت سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصحبت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله. قالت: فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم. فقال أسامة: هم أهلك يا رسول الله، ولا نعلم والله إلا خيرًا. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تخبرك. قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال لها: أي بريرة. هل رأيت فيها شيئًا يريبك؟ فقالت: لا والذي بعثك بالحق نبيًا إن رأيت منها أمرًا أغمصه عليها أكثرمن أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه واستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول. فقال وهو على المنبر: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا. ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي. قالت: فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا والله أعذرك منه. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك. فقام سعد بن عباده رضي الله عنه وهو سيد الخزرج، وكان رجلًا صالحًا ولكن أخذته الحمية. فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حضير رضي الله عنه وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عيادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ونزل. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. فأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويومًا، حتى أظن أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذا دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس، ثم قال: «أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا. فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله تعالى عليه» فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة. فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن. فقلت: إني والله أعلم أنكم سمعتم حديثًا تحدث الناس به، واستقر في نفوسكم، وصدقتم به. فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقنني. فوالله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف إذ قال: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحيًا يتلى؛ ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها. فوالله ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحاء، فسري عنه، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: يا عائشة احمدي الله تعالى فإنه قد برأك. فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي. فأنزل الله تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم العشر الآيات} فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد ما قال لعائشة رضي الله عنها فأنزل الله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة} إلى قوله: {والله غفور رحيم} فقال أبو بكر رضي الله عنه بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان يجري عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: «يا زينب ما علمت وما رأيت»؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا. وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع. قالت: فطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.وهكذا عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. وعاش أبو بكر رضي الله عنه وأهل بيته. وعاش صفوان بن المعطل. وعاش المسلمون جميعًا هذا الشهر كله في مثل هذا الجو الخانق، وفي ظل تلك الآلام الهائلة، بسبب حديث الإفك الذي نزلت فيه تلك الآيات.
|